نتابع دروس مصطلح الحديث
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على أفضل الأنبياء والمرسلين وعلى آله وصحبه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد، تكلمنا عن الحديث المنكر، وهنا سنتكلم عن الحديث المُعَلّ أو الحديث المعلول أو الحديث المعلّل، له ثلاثة أسماء، والأصحّ هو المُعلّ، وهو إذا كان سبب الطعن في الراوي هو الوهن، فحديثه يسمّى المعلّ.
· تعريف الحديث المعلّ
المعلّ هو الحديث الذي اطُلّع فيه على علّة تقدح في صحة الحديث -إذن العلّة قادحة-، مع أنّ ظاهر الحديث السلامة من العلّة.
تعريف العلّة: سبب غامض خفي يقدح في صحّة الحديث مع أن الظاهر السلامة منها.
ولا بدّ للعلّة من شرطين:
- الشرط الأول: الغموض والخفاء
- الشرط الثاني: القدح في صحّة الحديث
اصطلاحا؛ ولكن قد تطلق العلّة على غير الاصطلاح، يعني ممكن نقول حديث معلّ ولكن ليس على الاصطلاح، فالعلّة الاصطلاحية لا بدّ أن تقدح في صحة الحديث وأن يتوفر فيها الخفاء والغموض.
إلى أي إسناد يتطرّق التعليل؟ هل العلّة تتطرق إلى الحديث الضعيف أم إلى الحديث الصحيح؟
العلّة تتطرق عادة إلى الإسناد الجامع لشروط الصحّة ظاهرا، تنظر إلى الإسناد فتجد أنّه يجمع شروط الصحّة، قالوا لأنّ الحديث الضعيف لا يحتاج إلى البحث عن علله لأنّه مردود ولا يعمل به؛ إذن العلّة تتطرق إلى الإسناد الجامع لشروط الصحّة في الظاهر، ولا تتطرق إلى الحديث الضعيف لأنّه لا يعمل به.
كيف نكتشف العلّة؟ أو بما يستعان على إدراك العلّة؟
يستعان على إدراك العلّة بأمور منها:
أولا: تفرّدُ الراوي، يعني أن يأتي الحديث من طريق هذا الراوي فقط؛ التفردّ أصلا ليس بعلّة، لأنه توجد أحاديث كثيرة غريبة وتفردّ بها الرواة مثل حديث "إنّما الأعمال بالنّيات"، فهذا الحديث تفردّ به الرواة، ومع ذلك ليس معلولا، ولكن قلنا يستعان على إدراك العلّة بتفرّد الراوي، وليس كلّ تفرّد علّة، ولكن لما أجد راوٍ متفردا بحديث يجب أن أنظر لما تفرّد به ولم يروه غيره وما السبب في التفرد؟ الأصل أن لا يتفرد بالحديث، ولكن إن وجدت راو تفرد بحديث فعليّ أن أبحث في هذا الحديث وأنظر فيه، فلّعلّه توجد علّة بسبب التفرد.
ثانيا: مخالفة الراوي لغيره، وجدت حديث رواه راو هكذا ورواه آخر هكذا، إذن يوجد خلاف بينهما، فما سبب الخلاف؟ ومن يُؤخذ بروايته؟ ومن تترك روايته؟
إذن عند المخالفة أتوقف في الحديث وأنظر، هل في الإسناد علّة أم لا؟ وما سبب الخلاف؟
ثالثا: هناك قرائن أخرى تنظم إلى ما تقدّم، فهناك قرائن في الحديث تعين على ترجيح رواية على رواية، مثلا إن كان الإسناد فيه راوٍ لم يلازم الشيخ، والإسناد الثاني فيه راوٍ لازم الشيخ، واختلف الاثنان، فهذه قرينة على تقديم إحدى الروايتين على الأخرى، وهكذا
ما هو الطريق إلى معرفة المُعلّ؟
الطريق إلى معرفة المعلّ هي تجميع طرق الحديث، أي إنسان أو عالم يريد أن يتبين إن كان الحديث معلولا أو غير معلول فعليه أن يجمع طرقه وينظر من رواه وهل له طرق كثيرة أم لا، ثم بعد جمع الطرق إذ وجَد خلافا بين الرواة فلا بدّ من الموازنة بين ضبطهم وبين إتقانهم ثمّ الحكم على الرواية المعلولة؛ إذن لا يمكن أن يحكم المحدّث على الحديث بأنّه معلول أو غير معلول إلا بجمع طرق الحديث، ثم النظر في اختلاف رواته والموازنة بين ضبطهم وإتقانهم.
أين تقع العلة؟
قلنا أن حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم يتكون من جزئين -من الإسناد ومن المتن- فالعلّة تقع في الإسناد -وهو الأكثر، كالتعليل بالوقف والإرسال- وتقع في المتن -وهو الأقلّ
مثال للعلة في المتن
انفرد مسلم بإخراجه في صحيحه من رواية الوليد بن مسلم بسنده عن أنس بن مالك أنّه قال "صليت خلف النبي- صلى الله عليه وسلم - وأبي بكر وعمر وعثمان -رضي الله عنهم- فكانوا يستفتحون بالحمد لله ربّ العالمين، لا يذكرون بسم الله الرحمن الرحيم في أول القراءة ولا في آخرها"؛ هنا الآن حديث من رواية الوليد بن مسلم بسنده إلى أنس بن مالك رضي الله عنه الذي خدم رسول الله صلى الله عليه وسلم عشر سنين. قال ابن صلاح: فعلّل قوم رواية هذا اللفظ لما رأوا الأكثرين قالوا فيه "فكانوا يستفتحون القراءة بالحمد لله رب العالمين" من غير تعرض لذكر البسملة. فأكثر العلماء قالوا هذه الزيادة غير صحيحة لأنّ أكثر العلماء رووها برواية "صليت خلف النبي صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر وعثمان فكانوا يستفتحون بالحمد لله رب العالمين"، ولا توجد "لا يذكرون بسم الله الرحمن الرحيم"، وهو الذي اتّفق على إخراجه في الصحيح البخاري ومسلم ورأوا أنّ من رواه باللفظ المذكور، رواه بالمعنى الذي وقع له ففهم من قول "فكانوا يستفتحون القراءة بالحمد لله رب العالمين" أنّهم كانوا لا يبسملون، فرواه على ما فهم وأخطأ.
كما هو معروف، البسملة في سورة الفاتحة هي آية، أكثر العلماء على أنّها جزء من الآية، ولذلك ذهب كثير من العلماء إلى أنّ من لا يقول بسم الله الرحمن الرحيم في الفاتحة صلاته باطلة، لأنّه ترك آية؛ ولكننا نسمع من أئمتنا ومن يقرؤون جهرا أنّهم لا يذكرون بسم الله الرحمن، ولكن هم يذكرونها ولكن لا يذكرونها جهرا، لهذا الحديث، حديث أنس رضي الله عنه "فكانوا يستفتحون القراءة بالحمد لله رب العالمين". وقالوا كان الرسول صلى الله عليه وسلم يقرأ البسملة سرا ولا يجهر بها، وهو الصحيح.
مثال للعلة في السند
رواه الثقة يعلى بن عبيد عن سفيان الثوري عن عمرو بن دينار عن عبد الله بن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "البيعان بالخيار ما لم يفترقا أو يخيّر أحدهما صاحبه، فإن خيّر أحدهما صاحبه فتبايعا على ذلك فقد وجب البيع"؛ بيع الخيار ما لم يفترقا، يعني مثلا كنا جالسين في مجلس فقال لي شخص تبيعني سيارتك بعشرة ألف، فقلت نعم، فقال لي إذن اشتريتها وأعطاني ثمنها، فإن خرج أحدنا من المجلس فقد تمّ ووجب البيع، أما لو مكثنا في نفس المجلس فيحقّ لكلّ منا أن يتراجع، هذا خيار المجلس. أما خيار الشرط فكأن أقول لشخص هل تبيعني سيّارتك، يقول نعم أبيعك إياها بعشرة آلاف، فأقول له أنا أشتريها منك شريطة أن أجرّبها ثلاث أيّام، فإذا وافق على ثلاثة أيّام وأرجعتها قبل ثلاثة أيّام فما تمّ البيع؛ إذا أتيته بها بعد عشرة أيّام فقد تمّ البيع، لأني أتممت المدّة، ولهذا "البيعان بالخيار ما لم يفترقا أو يخيّر أحدهما صاحبه"، يخيّره يعني يشترط عليه مثلا، "فإن خيّر أحدهما صاحبه فتبايعا على ذلك فقد وجب البيع"؛ هذا الحديث رواه سفيان الثوري عن عمرو بن دينار عن عبد الله بن عمر؛ فهذا إسناد متصل بنقل العدل عن العدل ولكنّه مُعلّ والعلّة في قول يعلى بن عبيد "عمرو بن دينار"، والصواب "عبد الله بن دينار"، مع أنّ عمرو بن دينار ثقة وعبد الله بن دينار ثقة، ولكن هكذا رواه الأئمة من أصحاب سفيان عنه، فوهِم يعلى بن عبيد فذكر عمرو بن دينار بدل عبد الله بن دينار.
والحديث صحيح لأنّ كليهما ثقة، ولكنّه معلّ.
مثال المعلّ في السند والمتن
فمثاله ما أخرجه النسائي وابن ماجه من حديث بقية -بقية بن الوليد وهو مدّلس- عن يونس -بن أبي إسحاق السبيعي- عن الزهري عن سالم -بن عبد الله- عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال "من أدرك ركعة من صلاة الجمعة وغيرها فقد أدرك"؛ يعني من أدرك ركعة من صلاة الجمعة فقد أدرك صلاة الجمعة، قال أبو حاتم الرازي "هذا خطأ المتن والإسناد، إنّما هو عن الزهري عن أبي سلمة عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم "من أدرك من الصلاة ركعة فقد أدركها"؛ إذن الخطأ في المتن وفي الإسناد، أما قول "من صلاة الجمعة"، فليس هذا من الحديث فوهِم في كليْهِما -أي في السند والمتن-؛ والحديث مروي من أوجه كثيرة في الصحيحين على خلاف حديث بقية عن يونس، فقد رواه البخاري ومسلم من طريق مالك عن الزهري عن أبي سلمة عن أبي هريرة قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم "من أدرك ركعة من الصلاة فقد أدرك الصلاة"، رواه مسلم من طريق عبد الله.. أخبرني يونس بن يزيد عن الزهري عن أبي سلمة عن أبي هريرة، ورواه مسلم من طريق يحيى بن يحيى عن مالك عن الزهري عن أبي سلمة عن أبي هريرة.
هل كلّ علّة في الإسناد تقدح في المتن؟ أم يمكن أن يكون الإسناد معلّا والمتن صحيحا؟
قد تقدح في المتن مع قدحها في الإسناد، وذلك مثل التعليل بالإرسال، فالمرسل منقطع أو ضعيف فيقدح في المتن.
وقد تقدح في الإسناد خاصّة، ولا تقدح في المتن، فيكون المتن صحيحا
أشهر المصنفات في العلل:
كتاب العلل لابن المديني، وهو كتاب كبير، ولكن المطبوع منه جزء واحد.
علل الحديث لابن أبي حاتم، مجلدين.
العلل ومعرفة الرجال، للإمام أحمد بن حنبل.
العلل الكبير والعلل الصغير، وهما كتابان للترمذي.
وأوسع هذه الكتب العلل الواردة في الأحاديث النبوية للدارقطني، وهو أجمع هذه الكتب.
و صلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين.
و الحمد لله رب العالمين.