نتابع دروس مصطلح الحديث
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على أفضل الأنبياء والمرسلين وعلى آله وصحبه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد، تكلمنا في المحاضرة السابقة عن "المضطرب"، وسنتكلم في هذه المحاضرة عن الحديث الشاذ.
· تعريف الحديث الشاذ
لغة: اسم فاعل من "شذ" بمعنى "انفرد" فالشاذ معناه: "المنفرد عن الجمهور".
اصطلاحاً: ما رواه المقبول مخالفاً لمن هو أولي منه.
الفرق بين المقبول والثقة:
المقبول هو أقل من الثقة،
المقبول: حديثه حسن، والثقة: حديثه الصحيح.
تعريف المقبول
المقصود بالمقبول هو: العدل الذي تَمَّ ضبطه، أو العدل الذي خَفَّ ضبطه.
تعريف الشاذ
وتعريف الشاذ بأنه: ما رواه المقبول مخالفاً لمن هو أولي منه. أو: ما رواه الثقة مخالفا لمن هو أوثق منه.
أين يقع الشذوذ؟
يقع الشذوذ في السند، كما يقع في المتن أيضاً.
مثال الشذوذ في السند: ما رواه الترمذي والنسائي وابن ماجة من طريق سفيان ابن عيينة عن عمرو بن دينار عن عَوْسَجَه عن ابن عباس، رضي الله عنهما: أن رجلا توفي على عهد رسول الله، صلي الله عليه وسلم، ولم يدع وارثاً إلا مولي هو أعتقه.
إذا، هناك رجل توفي، ولا يوجد له ورثة، ولكن ترك مولى، أي: رجل محرر، كان عبدا وحرره، فيبقى ولاؤه لهذا الرجل الذي حرره، معنى هذا: أن الرسول، صلى الله عليه وسلم، أعطى هذا المولى ميراث الرجل الذي أعتقه، هذا معنى الحديث. الآن حديثنا: أن رجلا توفي على عهد رسول الله، صلي الله عليه وسلم. إذا، الحديث مرفوع، والرسول، صلى الله عليه وسلم، هو الذي ورَّثه.
ولكن، ورد أن الحديث مرسل، وهو من طريق حماد بن زيد عن عَمرو بن دينار عن عوسجة: أن رجلا توفي على عهد رسول الله، صلي الله عليه وسلم. فأسقط ابن عباس، فيكون الحديث مرسلا.
إذا، عندي عن ابن عيينة عن عمرو بن دينار عن عَوْسَجَه عن ابن عباس.
وحماد بن زيد يرويه عن عَمرو بن دينار عن عوسجة، ولم يذكر ابن عباس، إذا، هناك اختلاف بين الاثنين، فابن عيينة يرويه متصلا، وحماد يخالفه، فيرويه مرسلا.
فبماذا نحكم على الإسناد؟ فكلا الإسنادين ثقات، وصحيح، ونريد الآن أن نرجح، هل نرجح الإرسال، أم نرجح الاتصال؟ وجدنا أن عبد الملك ابن جريج، تابع ابن عيينة، أي: أيده، على وصل الحديث، فصار اثنين مقابل واحد، ابن عيينة وابن جريج يرويانه عن عمرو بن دينار عن عوسجة عن ابن عباس، وخالفهم حماد بن زيد فقط، فرواه مرسلا.
فحَكَم العلماء على رواية حماد بن زيد بالشذوذ، وعلى رواية ابن عيينة بالصحة وأنها محفوظة. فهذه مخالفة الثقة لمن هو أكثر منه ثقة، فيسمى هذا: شذوذ في السند.
ولهذا قال أبو حاتم: المحفوظ حديث ابن عيينة فحماد بن زيد من أهل العدالة والضبط، ومع ذلك فقد رجح أبو حاتم رواية من هم أكثر عدداً منه.
مثال الشذوذ في المتن:
ما رواه أبو داود والترمذي من حديث عبد الواحد ابن زياد عن الأعمش عن أبي صالح عن أبي هريرة أن النبي، صلى الله عليه وسلم، قال: "إذا صلى أحدكم ركعتي الفجر فليضطجع على يمينه".
قال البيهقي: خالف عبد الواحد العدد الكثير في هذا، فان الناس إنما رووه من فعل رسول الله، صلى الله عليه وسلم، لا من قوله. إذن، الفعل أنه، صلى الله عليه وسلم، كان إذا صلى الفجر، أي ركعتي السنة، يضطجع على يمينه، حتى يقيم بلال.
كل الرواة رووه من فعل رسول الله، صلى الله عليه وسلم، وانفرد عبد الواحد بروايته من قول رسول الله، صلى الله عليه وسلم، وليس من فعله. ولهذا قالوا: شاذ في المتن، فانفرد عبد الواحد من بين الثقات من أصحاب الأعمش بهذا اللفظ، أي من قوله وليس من فعله.
مثال الشذوذ في متن الحديث وإسناده،
كما في حديث معمر عن الزهري، رحمه الله، عن سعيد بن المسيب عن أبي هريرة أن النبي، صلى الله عليه وسلم، قال "إذا وقعت الفأرة في السمن، فإن كان جامدا فألقوها وما حولها، وإن كان مائعا، فلا تقربوه".
لكن البخاري وأبي حاتم وغيرهم يحكمون على الحديث بأنه غير صحيح، وإنما هو خطأ من معمر، ومعمر ثقة، ولكنه تفرد وخالف في المتن، فيعتبر حديثه حديثا شاذا في الإسناد.
فإن الرواة عن الزهري، مالك وغيره، فيروون عن الزهري عن عبيد الله بن عبد الله عن ابن عباس عن ميمونة، وهو المخرج في الصحيح، هذا من جهة الإسناد.
أما من جهة المتن: فما رواه الحفاظ عن الزهري ليس فيه التفصيل المذكور في حديث معمر، وإنما سئل النبي، صلى الله عليه وسلم، عن فأرة وقعت في سمن، فقال "ألقوها وما حولها، وكلوه".
ففي الحديث الأول تفصيل: إذا كان السمن جامدا أو مائعا، وفي الحديث الصحيح لا يوجد تفصيل، فالراوي فهم من الحديث أن السمن الجامد نلقي ما حول الفأرة ونأكل، وفي المائع لا نستطيع أن نميز فيرمى كله.
فدلنا هذا على أن معمر أخطأ في هذا الحديث لمخالفته الثقات الأثبات، الذين يرونه عن الزهري في هذا المتن، فصار حديث معمر السابق حديثا شاذا في إسناده، شاذا في متنه.
· الحديث المحفوظ
وهوعكس الشاذَّ وهو: ما رواه الأوثق مخالفاً لرواية الثقة.
ومثاله: هو المثالان المذكوران في نوع الشاذ.
المحفوظ فهو حديث مقبول، ويعمل به.
· الحديث المصحَّف
لغة: اسم مفعول من "التصحيف"، وهو: الخطأ في الصحيفة، ومنه "الصَّحَفِيٌّ" وهو: من يخطئ في قراءة الصحيفة، فيغير بعض ألفاظها بسبب خطئه في قراءتها، يقال: صحفه فتصحف، أي: غيره فتغير.
اصطلاحاً: تغيير الكلمة في الحديث إلى غير ما رواها الثقات لفظاً أو معني. أو تغيير الكلمة في الحديث من الهيئة المتعارف عليها إلى غيرها.
قسم العلماء المُصَحف إلى ثلاثة تقسيمات
أ) باعتبار مَوْقِعِهِ: ينقسم المُصَحَّف باعتبار موقعه إلى قسمين وهما:
1- تصحيف في الإسناد: ومثاله: حديث شعبة عن "العَوَّام ابن مُرَاجِم"، صحفهُ ابن مَعِين فقال: عن "العَوَّام بن مُزاحم"، ومثله: جواب التميمي، قرأه حبيب، كاتب الإمام مالك: جراب التميمي، وهذا يسمى تصحيف، وأيضا: أبو حرة، قرأه بعضهم: أبو جرة. وهكذا تصحيف بسبب النقل، وأكثره يقع بسبب قراءة الكتب المخطوطة بدون نقط، لأن الكتب السابقة كان التنقيط فيها قليلا، فمثلا: يسار، بشار، رسمهما واحد، فإذا حذفت النقاط تجدهما متشابهين، فإذا لم تنقط فلا نستطيع تحديد هل هي بشار أم يسار، وعندنا محمد بن بشار، وعندنا محمد بن يسار، فكيف نستطيع أن نحدد إذا لم تنقط؟
2- تصحيف في المتن: ومثاله حديث زيد بن ثابت أن النبي صلي لله عليه وسلم "احْتَجَزَ في المسجد...."، صَحَّفَهُ ابن لهيعة فقال "احْتَجَمَ في المسجد...". لما اعتكف، صلى الله عليه وسلم، عمل حجرة من خص أو حصير، فجاء راو وقال: بدلا من "احتجز"، "احتجم"، فهذا تصحيف في المتن.
ومثاله: حديث نهي النبي، صلى الله عليه وسلم، عن الحِلَق قبل الصلاة في الجمعة، أن يتحلق الناس، للدروس أو قراءة القرآن، قبل الجمعة، فصحفه بعضهم، فرواه: "الحَلْق"، قال الخطابي: قال لي بعض مشايخنا: لم أحلق رأسي قبل الصلاة، نحوا من أربعين سنة، بعدما سمعت هذا الحديث!!
ب) باعتبار مَنْشَئه: وينقسم باعتبار منشئه إلى قسمين أيضا وهما:
1- تصحيف بَصَر: هو الأكثر: أي يشتبه الخَطَّ على بَصَر القارئ إما لرداءة الخط، أو عدم نَقْطِهِ.
ومثاله: قال رسول الله، صلى الله عليه وسلم: " من صام رمضان وأتبعه سِتَّاً من شوال.."، صَحِّفَهُ أبو بكر الصٌّوْلي فقال "من صام رمضان وأتبعه شيئا من شوال..." فصَحَّف "ستاً" إلى "شيئا".
2- تصحيف السمع: أي تصحيف منشؤه رداءة السمع، أو بُعْدُ السامع، أو نحو ذلك، فتشتبه عليه بعض الكلمات لكونها على وزن صَرْفي واحد.
ومثاله: حديث مروي عن "عاصم الأحول" صحفه بعضهم فقال: عن "واصل الأحدب".
جـ) باعتبار لفظه أو معناه: وينقسم باعتبار لفظه أو معناه إلى قسمين وهما:
1- تصحيف في اللفظ: وهو الأكثر، وذلك كالأمثلة السابقة. "ستا من شوال" إلى "شيئا من شوال"، و"احتجر" إلى "احتجم"، وغير ذلك.
2- تصحيف في المعنى: أي أن يُبْقِيِ الراوي المُصَحِّف اللفظ على حاله، لكن يفسره تفسيراً بعيد المعنى، يدل على أنه فهم معناه فهماً غير مراد.
ومثاله، لما سمع بعضهم حديث "لا يدخل الجنة قتات" أي: النمام، فبكى لما سمعه، فسئل: ما الذي أبكاك؟ قال: كيف أصنع، وليس لي حرفة سوى بيع القت، وهو علف الدواب.
تقسيم الحافظ ابن حجرللتصحيف:
أ) المُصَحَّف: وهو ما كان التغيير فيه بالنسبة إلى نَقْط الحروف، مع بقاء صورة الخَط.
ب) المُحَرَّف: وهو ما كان التغيير فيه بالنسبة إلى شَكْل الحروف، مع بقاء صورة الخط.
هل يقدح التصحيف بالراوي؟
أ) إذا صدر من الراوي نادراً فإنه لا يقدح في ضبطه؛ لأنه لا يسلم من الخطأ والتصحيف القليل أحد.
ب) وإذا كثر ذلك منه فإنه يقدح في ضبطه، ويدل على خفته، وانه ليس من أهل هذا الشأن.
السبب في وقوع الراوي في التصحيف الكثير:
غالباً ما يكون السبب في وقوع الراوي في التصحيف هو: أخذ الحديث من بطون الكتب والصُّحُف، وعدم تلقيه عن الشيوخ والمدرسين,,ولهذا ننصح بأن يأخذ الإنسان العلم عن الشيوخ، ولا يعتمد على نفسه، وأقصد الشيوخ الموثوقين، الكبار في السن، الذين لهم قدم راسخة، لا من طلبة العلم الذي يظن بعضهم أنهم علماء.
فلو قرأ إنسان القرآن وحده، ولم يأخذه على قارئ فسيقع في أخطاء كثيرة جدا؛ لأنه هناك ألفاظًا لا يمكن أن تقرأها وحدك، بل لابد من شيخ يعلمك، وهكذا كل العلوم، وخصوصا علوم الكتاب والسنة
أشهر المصنفات فيه:
- أول من صنف في ذلك هو: أبو أحمد الحسن بن عبد الله بن سعيد العسكري (توفي 382 هـ)، قال السخاوي: ولهذا الإمام، في التصحيف، ثلاثة كتب: أكبرها: "في سائر ما يقع في التصحيف من الأسماء والألفاظ"، غير مقتصر على الحديث، يعني: في الأدب، في اللغة.
ثم أخرج منه كتاب يتعلق بأهل الأدب، وهو: "ما يقع في التصحيف من ألفاظ اللغة والشعر وأسماء الشعراء أو الفرسان، وأخبار العرب، وأيامها"؛
ثم كتاب "تصحيفات المحدثين" مختص بالمحدثين، ومطبوع بتحقيق الدكتور: محمود الميرة، حفظه الله ورعاه.
- وهناك كتاب "إصلاح خطأ المحدثين"، للإمام حمد بن سليمان بن خطاب، المعروف بالخطابي (توفي 388 هـ).
- ومن أوفى الكتب وأجمعها في باب التصحيف والتحريف "تصحيف المحدثين" للدارقطني (توفي 385 هـ).
والثلاثة متعاصرون لتقارب زمان وفاتهم، ولا ندري أي هذه الكتب أوسع وأحفل، ولكن الظاهر أن كتاب الدارقطني هو أوسعها، والله أعلم.
و صلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين.
و الحمد لله رب العالمين.