بسم الله
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه،ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمداً عبده ورسوله،
{ يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون }
{ يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها وبث منهما رجالاً كثيراً ونساء واتقوا الله الذي تسآءلون به والأرحام إن الله كان عليكم رقيبا}
{ يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وقولوا قولاً سديداً يصلح لكم أعمالكم ويغفر لكم ذنوبكم ومن يطع الله ورسوله فقد فاز فوزاً عظيماً }
أما بعد ... فإن أصدق الحديث كتاب الله وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها وكل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار،
روى البخاري عن علي رضي الله عنه قال: "لا تكونوا عُجُلاً مذاييع بُذُرًا، فإن من ورائكم بلاءً مبرِّحًا مُمْلِحًا – وفي بعض الطرق: مُكْلِحًا - وأمورًا متماحِلةً رُدُحًا". [الأدب المفرد (1/169) وصححه الشيخ الألباني].
عُجُلاً: من العجلة، أي لا تكونوا عجولين.
مذاييع: جمع مذياع، وهو من أذاع الشيء.
بُذُرًا: الذي لا يستطيع كتم سرَّه، وهو جمع بَذور وبَذير.
مُبَرِّحًا: أي البَرْح هو الشدة والشر، والمعنى أنه أمر شديد شره.
مُمْلِحًا: الملحة لجة البحر، فكأن المعنى: بلاءٌ شديدٌ شرُّه واسعٌ انتشارُه.
مُكْلِحًا: أي يجعل الناس كالحين؛ أي عابسين.
مُتماحِلَة: الممحالة: القوة والشدة والإهلاك.
رُدُحًا: الفتن الثقيلة العظيمة.
هذا الأثر العظيم من ذاك الصحابي الجليل رضي الله عنه، هو نصيحة غالية لمن تأملها، لاسيما وقت الفتن، الذي تطيش فيه العقول والألباب، وتعمى الأبصار عن رؤية الحقائق، ويشتبه الحق بالباطل، فتزل الأقدام، وتضل الأفهام، ولا عاصم إلا الله.
وتشتمل وصية أمير المؤمنين رضي الله عنه على النهي عن أمرين مهمين، بفعلهما تنتشر الفتن انتشار النار في الهشيم؛ فهما وقود أي فتنة، وفسطاط كل حالقة.
الأمر الأول: عدم العجلة:
فإن الفتن إذا جاءت، جاءت مزينة مبهرجة لكل من يراها بعيني رأسه دون عقله، فتزور الحقائق، وتغير الصور، فيصعب على الإنسان أول ما تأتيه أن يميز ما فيها من بلايا ومحن، وخطر وشر على الدنيا والدين، ولكن ما إن يمر الزمان حتى تنجلي الحقائق، وتتضح الأمور، ويعلم ما فيها من الشرور، ويندم ساعتها كل خائض فيها، ويعض أنامل الندم كل من ولغ فيها وركض، ولات ساعة مندم.
روى البخاري في كتاب الفتن (9/54): وقال ابن عيينة عن خلف بن حوشب :كانوا يستحبون أن يتمثلوا بهذه الأبيات عند الفتن، قال امرؤ القيس:
الحـرب أول مــا تــكــون فـــتــيــة *** تسعـى بزينتها لكل جهول
حتى إذا اشتعلت وشب ضرامـها *** ولــت عــجوزا غير ذات حليل
شـمطاء ينكر لونــــهـــا وتـــغيرت *** مـكـروهــة للشم والتـقــبيل
فتأمل رحمك الله كيف مثلوا الفتن كلها بالحرب، ونظروا لها أنها تكون خادعة أول وهلة، ثم يظهر شرها، حتى يبغضها كل أحد، حتى من أشعلوها.
وتأمل قول الحسن البصري رحمه الله: الفتنة إذا أقبلت عرفها كل عالم، وإذا أدبرت عرفها كل جاهل. [ رواه البخاري في التاريخ الكبير (4/322)].
ولكن معرفة الجاهل هنا لا تنفع بشيء، لأنه يكون قد أخذ بحظه منها، وأصابه شرها، والله المستعان. وكثيرا من الناس ما إن يرى أمرا حتى يبادر بالحكم عليه، بناء على نظرة مبدئية قاصرة، يعتورها الكثير من الخلل والنقص، ثم يبني على هذا الحكم أعماله، بل ربما يدعو الناس إلى ما توهمه من ذلك الخير الموجود في تلك النازلة، وتمر الساعات؛ ليرى ما لم يكن يره، وتبدو له الحقائق بصورتها القبيحة، وما عنده يومها إلا أصابع ندم يعضها!!
الأمر الثاني: عدم الخوض في الفتنة وعدم نشرها:
إن الفتن - عباد الله – وقود ينتظر الحريق، وحريقها نقلها، وكلما كان النقل أكثر، كانت الفتنة أعظم، وألسنة ينفخون في نارها بألسنتهم، ولذلك كانت وصية ذلك الصحابي الجليل ألا يكون فيها مذياعا، ناشرا لها بين الناس، بل يحفظ لسانه عنها كأنها سر، ويعمل كأنه لو تكلم فيها كأنما قد أفشى سرا، وتأمل ذلك في قوله رضي الله عنه :" بذرا " وذلك هو الذي لا يحفظ سره، فانظر إلى هذا التشبيه البليغ، حيث إن الفتنة لو لم تنشر لكانت كالسر، وذلك وأد لها في مهدها، فينجو العباد من خطرها.
يقول تعالى :{ وإذا جاءهم أمر من الأمن أو الخوف أذاعوا به ولو ردوه إلى الرسول وإلى أولي الأمر منهم لعلمه الذين يستنبطونه منهم }.
قال الشيخ السعدي :" هذا تأديب من الله لعباده عن فعلهم هذا غير اللائق، وأنه ينبغي لهم إذا جاءهم أمر من الأمور المهمة والمصالح العامة ما يتعلق بالأمن وسرور المؤمنين، أو بالخوف الذي فيه مصيبة عليهم أن يتثبتوا ولا يستعجلوا بإشاعة ذلك الخبر، بل يردونه إلى الرسول وإلى أولي الأمر منهم، أهلِ الرأي والعلم والنصح والعقل والرزانة، الذين يعرفون الأمور ويعرفون المصالح وضدها. فإن رأوا في إذاعته مصلحة ونشاطا للمؤمنين وسرورا لهم وتحرزا من أعدائهم فعلوا ذلك، وإن رأوا أنه ليس فيه مصلحة أو فيه مصلحة ولكن مضرته تزيد على مصلحته، لم يذيعوه، ولهذا قال: { لعلمه الذين يستنبطونه منهم } أي: يستخرجونه بفكرهم وآرائهم السديدة وعلومهم الرشيدة.
وفي هذا دليل لقاعدة أدبية وهي أنه إذا حصل بحث في أمر من الأمور ينبغي أن يولَّى مَنْ هو أهل لذلك ويجعل إلى أهله، ولا يتقدم بين أيديهم، فإنه أقرب إلى الصواب وأحرى للسلامة من الخطأ. وفيه النهي عن العجلة والتسرع لنشر الأمور من حين سماعها، والأمر بالتأمل قبل الكلام والنظر فيه، هل هو مصلحة، فيُقْدِم عليه الإنسان؟ أم لا فيحجم عنه؟".
وهذا كلام نفيس جد نفيس من الشيخ رحمه الله، واستنباط بديع من الآية، ولو رأينا كثيرا مما يحصل في بلاد المسلمين لعلمنا أن سبب معظمها هو الإخلال بما مضى مما اشتملت عليه الآية مما استنبطه الشيخ رحمه الله، فالناس ما إن يجيئهم أمر من الشرور حتى ينشروه بينهم، مما يجعل النفوس تحمل شرها، وتطفح الجوارح بما في الصدور، فتكون فتن لا يعلم شرها إلا الله سبحانه.
فتأمل يا عبد الله في نفسك، وانظر إلى ما جاءك من وصايا خير هذه الأمة؛ رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه، فإنه الهدى المستقيم، والصراط القويم، فلا حق يكون بخلاف ما اختاروه، ولا خير فيما حذروا منه وتركوه، فاسلك سبيلهم، وعليك بهديهم، فإنك إذاً على الصراط المستقيم.
والحمد لله رب العالمين أسأل الله تعالى أن يسددنا وأن يأيدنا وأن ينفعنا وأن ينفع بنا إنه ولي ذلك والقادر عليه. والصلاة والسلام على من لانبي بعده >>>