بسم الله
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، مَن يهده الله فلا مُضل له، ومَن يُضلل فلا هادي له، وأشهدُ أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهدُ أن محمدًا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه ومَن تبعهم بإحسان، وسلَّم تسليمًا .
أما بعد:
أيها المؤمنون، اتَّقوا الله تعالى واشكروه على ما أنعم به عليكم من مواسم الخير والبركات، وما حباكم به من الفضائل والكرامات، وعظِّموا هذه المواسم واقْدِروها قدْرها بالطاعات والقُرُبات؛ فإنها ما جُعلت إلا لتكفير سيئاتكم وزيادة حسناتكم ورفعة درجاتكم.
أيها الأخوه لقد حلَّ بكم شهر كريم، وموسم رابح عظيم، شهر تُضاعف فيه الحسنات وتعظم فيه السيئات،
﴿شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدىً لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ﴾ [البقرة:185]
روى البخاري ومسلم عن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «قال الله عزَّ وجل: كُلُّ عمل ابن آدم له إلا الصوم فإنه لي وأنا أجزي به»
أيها الأخوه، اغتنموا شهر رمضان بكثرة العبادة والصلاة والقراءة والذكْر والإحسان إلى الخلق بالمال والبدن والعفو عنهم؛ فإن الله عفوٌ يحب العفو،
أيها المسلمون، احفظوا صيامكم من النواقص والنواقض، احفظوه عن قول الزور والعمل به والجهل
احفظوا صيامكم عن كل قول مُحرّم: من السب والشتم والكذب والغِيبة والنّميمة واللغو والفحش، ولْيكن عليكم الوقار ولا تجعلوا يوم صومكم ويوم فطركم سواء، احفظوا صيامكم عن كل عمل محرّم من الغش والخيانة في البيع والشراء والربا تحيّلاً عليه أو صراحةً، احفظوا صيامكم عن كل عمل محرّم، احفظوا صيامكم عن استماع المعازف والأغاني المحرمة، قوموا بِما أوجب الله عليكم من الصلاة في أوقاتها مع جماعة المسلمين في المساجد، لا تتهاونوا بالصلاة، لا تفرّطوا فيها بالنوم فإنها عمود الدين
لقد خابَ مَن يصوم ويضيّع الصلاة، لقد خابَ مَن يتسحَّر وينام عن صلاة الفجر مع الجماعة وربما نامَ ولم يصلِّ الفجر إلا بعد طلوع الشمس، لقد خابَ وخسر، كيف ينام عن صلاة الفريضة فلا يؤدّيها مع الجماعة ؟ أم كيف ينام عن صلاة الفريضة فلا يؤديها في وقتها ؟
إن مَن أخَّر الصلاة عن وقتها متعمِّدًا بلا عذر فلم تُقبل منه وإن صلى ألف مرّة؛ إن الله حدَّ للصلاة وقتًا مُعيَّنًا في أوله وآخره، فكما لا تُقبل الصلاة قبل وقتها فلا تُقبل بعده إلا من عذر شرعي .
فاتَّقوا الله - عباد الله - واعرفوا الحكمة من فريضة الصيام على العباد؛ فإن الحكمة تقوى الله - عزَّ وجل - بفعل أوامره واجتناب نواهيه،
﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ﴾ [البقرة:183] .
أيها المسلمون، إن الصيام فريضة فرَضَه الله على عباده، فهو أحد أركان الإسلام، مَن أنكر وجوبه فهو كافر بالله، مُكذبٌ لله ورسوله، خارجٌ عن جماعة المسلمين، فهو فرضٌ على كل مسلمٍ بالغٍ عاقلٍ قادرٍ مقيمٍ، فأما الصغير الذي لم يبلغ فلا صيام عليه لكن يؤمر به إذا كان يستطيعه ليعتاد عليه،
وأما فاقد العقل فلا صيام عليه سواء فقده بجنون أو كِبَر أو لآفة أو لحادث؛ وعلى هذا فالكبير الـمُهذري ليس عليه صيام ولا صلاة؛ لأنه لا عقل له(م1)، وأما الكبير العاقل فإن كان يُطيق الصوم وجب عليه وإن كان لا يطيقه لضعف جسمه من الكِبر فإنه يُطعم عنه بعدد الأيام عن كل يوم مسكين، لكل مسكين خمس صاع من الرز، والأَولى أن يُجعل مع الطعام شيءٌ يؤدِّمه من لحم أو دهن(م2)، ومَن عجز عن الصوم لمرض لا يُرجى زواله فحكمه حكم الكبير في الإطعام عنه(م3)، وإن كان المرض يرجى زواله فإنه ينتظر حتى يبرأ ويقضي الصوم لقوله تعالى: ﴿فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ﴾ [البقرة:184]، وأما المريض الذي يستطيع الصوم بدون مشقّة ولا ضرر فلا يجوز له الفطر(م4) إلا أن يكون في صومه تجدد للمرض، أو تأخر لبرئه، أو زيادة فيه فإنه يفطر
والحامل التي يشقّ عليها الصوم لضعفها أو ثقلها يجوز لها الفطر وتقضي، والمرضع إذا شقّ عليها الصوم بواسطة الرضاع أو خافت أن ينقص لبنها نقصًا يقلُّ على الولد يجوز لها أن تفطر أيضًا وتقضي
ولأنه أخفّ عليه من القضاء غالبًا وأسرع في إبراء ذمته، وإذا كان الصوم يشقّ عليه مشقّة عظيمة في السفر فإن الصوم حرام عليه؛ لأن أناسًا من الصحابة - رضي الله عنهم - صاموا وقد شقّ عليهم الصوم
ولا فرق بين المسافرين في جواز الفطر، فيجوز لِمَن كان سفره دائمًا كأصحاب سيارات الأجرة «التكاسي» أن يفطروا، وكذلك يجوز لأصحاب سيارات التحميل الكبيرة أن يفطروا ما داموا في سفرهم ويقضوا في أيام الشتاء؛ لأنهم مسافرون مفارقون لبلادهم وأهلهم وهذه حقيقة السفر .
إلا أن تطهرا قبل الفجر ولو بلحظة فيلزمهما الصوم وإن لم تغتسلا إلا بعد طلوع الفجر،
أيها المسلمون، استمعوا إلى قول الله عزَّ وجل: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (183) أَيَّاماً مَعْدُودَاتٍ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْراً فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (184) شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدىً لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ كَانَ مَرِيضاً أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ﴾ [البقرة:183-185] .
واعلموا أيها الأخوه، اعلموا أن صلاة التراويح من قيام رمضان ولكنها سُمِّيت تراويح؛ لأن الناس في السلف الصالح كانوا كلّما صلوا أربع ركعات استراحوا قليلاً، فصلّوا صلاة التراويح بطمأنينة وخشوع وحضور قلب .
أيها الأخوه إن صلاة التراويح صلاة وعبادة ليس مجرد حركات وعمل لا يدري الإنسان ما يقول فيه وما يفعل، والمقصود بصلاة التراويح التعبّدُ لله بها لا بسْرد الركعات، وإن كثيرًا من الناس يتهاونون بها الأئمةُ وغير الأئمة، أما الأئمة: فكثير منهم يسرع بها إسراعًا مُخلاً بكثير من السنن بل ربما يُخلّ بالأركان، وأما غير الأئمة: فكثير من الناس يفرّط فيها فلا يصليها ومنهم مَن يصلي بعضها وينصرف قبل إمامه وهذا حرمان من فضيلتها
يُكتب لك قيام ليلة وأنت نائم على فراشك، وأنت تبيع وتشتري في دكانك، إذا قمت مع الإمام حتى ينصرف فاصبر - يا أخي المسلم - وأكْمل الصلاة مع الإمام وأوتر معه .
أيها الأخوه وإن هذا العدد ليس بلازم، فلو صلى الإنسان أكثر منه فلا حرج عليه في ذلك؛ لأن الناس اختلفوا في هذا، ولكن الأفضل ما كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم، ولو صلى الإنسان ثلاثًا وعشرين أو صلى تسعًا وثلاثين أو صلى دون ذلك أو أكثر فإنه لا حرج عليه ولا يُنكَر عليه، ولكن يُقال: إن الأفضل اتّباع ما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم .
فالإمام في الحقيقة ليس يصلي لِمَن كان خارج المسجد وإنما يصلي لِمَن كان في المسجد في داخله؛ ولهذا لا ينبغي أن يجعل صوته متعدّيًا لِمَن كان في المسجد، وبإمكانه إذا كان أنشط له وأنشط للمصلّين أن يجعل مكبّرات الصوت داخل المسجد فقط لا على المنارة، وأنتم تعلمون - أيها الإخوة - أن من الناس مَن يصلّون في السَّرْحَة خارج البناء، ولا ريب أن مثل هؤلاء يشوِّش عليهم الصوت إذا جاءهم من قِبَل المنارة .
فيا أيها الإخوة، أرجو من الله سبحانه وتعالى أن يجعلنا وإياكم مِمَّن يتعاونون على البر وعلى التقوى، وأسأل الله - سبحانه وتعالى - أن يوفّقنا في هذا الشهر وفي غيره لِما يحب ويرضي، ﴿رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلاً لِلَّذِينَ آَمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ﴾ [الحشر: 10] .
عباد الله، ﴿إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (90) وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ وَلا تَنْقُضُوا الأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلاً إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ﴾ [النحل: 90-91]، واذكروا الله العظيم الجليل يذكركم، واشكروه على نِعَمِهِ يزدكم، ﴿وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ﴾ [العنكبوت: 45] .
أيها المسلمون، إن مِمَّا أنعم الله به على عباده في عصرنا هذا مكبِّرات الصوت التي تُسْمع صوت الإمام لِمَن خلفه فيسمعه جميع أهل المسجد ولكن بعض الناس يستعمل هذه المكبّرات استعمالاً يشوِّش به على مَن حوله من المصلين في البيوت أو في المساجد،
اللهم إنَّا نسألك أن تبارك لنا في شهرنا هذا وفي بقية عمرنا، وأن تجعلنا مِمَّن يستعمل أيامه وأوقاته في الطاعات، والكفِّ عن المحرمات يا رب العالمين .
اللهم اجعلنا مِمَّن صام رمضان وقامه إيمانًا واحتسابًا، اللهم يسِّرنا للهدى ويسِّر الهدى لنا يا رب العامين، ﴿رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلاً لِلَّذِينَ آَمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ﴾ [الحشر: 10]
محمد بن صالح بن عثيمين رحمه الله ---خطبة جمعه